خطبة الوداع كانت آخر الوصايا الجامعة للنبي ص التي وجهها لأمته (حج النبي ص سنة 10هـ، وتوفي ص في ربيع الأول سنة 11هـ)، وذلك بعد رحلة جهاد طويلة دامية مع الشرك والوثنية وأهواء البشر، وقد حج مع النبي ص في ذلك العام حوالي أربعين ألف مسلم(1)، جاؤوا من كل حدب وصوب يلتمسون رؤية النبي وتعلم المناسك منه، فمنهم جبال الإيمان كالسابقين الأولين من الصحابة، ومنهم حديث العهد بالإيمان، فأراد النبي بخطبته تلك الجامعة أن يلخص لهم مبادئ الإسلام وأسسه، وأن يرسي مرتكزات أي إصلاح سواء للفرد أو للمجتمع، وقد أوتي ص جوامع الكلم، وذللت له البلاغة تذليلاً.
ونستطيع من خلال تحليل خطبة الوداع أن نتبين أسساً أربعة لأي دعوة إصلاح إسلامية حوتها كلمات النبي الجامعة في خطبته هذه وهي:
1- تحديد المرجعية العليا للمجتمع المسلم.
2- صياغة الفرد النموذج.
3- بناء الأسرة الصالحة.
4- إقامة المجتمع القوي المتماسك.
أولاً: تحديد المرجعية العليا للمجتمع المسلم:
وذلك قوله ص: "قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً، أمراً بيناً: كتاب الله وسنة نبيه"(2).
إن أي مشروع حضاري، أو دعوة إصلاحية، لابد أن تنطلق أولاً من تحديد الأيديولوجية التي ترتكن إليها، والمرجعية الإسلامية، وإعلاء الكتاب والسنة فوق كل المناهج والأيديولوجيات، فالمرجعية الإسلامية هي أيديولوجية المجتمع المسلم.
إن تحديده هذه المرجعية بالنسبة للمجتمع الذي يدين بالإسلام في منتهى الأهمية لا سيما في أيامنا هذه، حيث تتصارع الأيديولوجيات المختلفة والمذاهب المتباينة، وتحاول كل واحدة منها كسب مزيد من الأرض والبشر حتى صار العالم كله معتركاً لهذا الصراع.
وإذا كان المنطلق الأول لأي مشروع حضاري أو دعوة إصلاح هو تحديد المرجعية كما سبق فإن مرجعية الكتاب والسنة للمجتمع المسلم من مقتضيات الإيمان ومستلزمات الخضوع لرب العالمين، التي لا خيار لمسلم فيها.
وقد بيَّنت آيات القرآن الكريم ذلك في مواضع شتى، كما أوضحت دون ريب أن من يأبى هذه المرجعية ويتنكب طريقها دائر بين عدوين: إما كفر، قال تعالى: (وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون) (العنكبوت 47)، وقال: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون 44 ) (المائدة)، وإما نفاق، قال تعالى ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين 47 وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون 48 وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين 49 أفي قلوبهم مرض أم \رتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون 50) (النور).
والمتأمل في هذه الصياغة البديعة لهذه الفقرة من خطبة الوداع: "إن اعتصمتم به فلن تضلوا..."، يجد تحقيق مدلولها، حيث صار من البين الواضح، مدى الضياع التي تعانيه المجتمعات المسلمة حين تركت الاعتصام بالكتاب والسنة كمرجعية عليا، ودستور حاكم، وقانون ملزم، واستبدلت بهما غيرهما، أو فرض عليها غيرهما بتعبير أدق.
ثانياً: صياغة الفرد النموذج:
وهذا الفرد النموذج يمثل الأساس، واللبنة الأولى في أي نهضة، أو دعوة للإصلاح، وتمثَّل هذا في فقرتين من خطبة الوداع، وهما قوله ص: "أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي فضل على عجمي إلا بالتقوى(3)، وقوله: "فإن الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبداً، ولكنه إن يطع فيما سوى ذلك فقد رضي به مما تحقرون من أعمالكم فاحذروه على دينكم"(4).
إن صياغة الإسلام لمن آمن به تعتمد على تربيته على تقوى الله، تقوى تجعل داخل نفسه رقيباً ذاتياً على أفعاله، مرشداً إلى الخير ناهياً عن الشر، بحيث لا يحتاج في كثير من الأحيان إلى الوازع الخارجي، والقوانين المتتالية، لضبط سلوكه وتوجيهه.
وسيرة الرسول ص منذ البدايات الأولى لدعوته تبين بجلاء مدى اهتمامه ببناء هذا الفرد النموذج وتربيته على هذا الأساس: تقوى الله، مما يقطع بأن هذا البناء وتلك التربية هما اللبنة الأولى في أي نهضة أو دعوة إصلاح.
إن المجتمعات المسلمة في حاجة ماسة إلى بناء الفرد على أساس الإسلام ومبادئه وأخلاقياته.
إن مخاطبة الغرائز الدنيا للفرد المسلم، وإسكار الناس باللهاث وراء الشهوات حيناً، ووراء لقمة العيش وضروراته حيناً آخر، لتغييب وعيهم، إن هذا كله أبعد ما يكون عن أي بناء سليم لمجتمع قوى، فضلاً عن أن يكون إسلامياً يتصدى لما يحاك له من مؤامرات.
ثالثاً: بناء الأسرة الصالحة:
وتنبع أهمية بناء الأسرة المسلمة من كونها اللبنة التالية لبناء المجتمع المسلم، بعد تحديد مرجعيته، وصياغة الفرد على التقوى، وذلك قوله ص: "أيها الناس، فإن لكم على نسائكم حقاً، ولهن عليكم حقاً، لكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، وعليهن ألا يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع، وتضربوهن ضرباً غير مبرح، فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف، واستوصوا بالنساء خيراً، فإنهن عندكم عوان "أي أسيرات" لا يملكن لأنفسهن شيئاً، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمات الله".
إن بناء هذه الأسرة المسلمة يقوم على تحديد الحقوق والواجبات لكل من الزوجين، حتى يتفرغ كل منهما للمهمة الجسيمة الموكلة إليه في بناء صرح الإسلام في الأرض.
وكل حق في الإسلام يقابله واجب، غير أن الناظر في وصايا الإسلام للزوجين على وجه الخصوص، في غير خطبة الوداع، يلفت نظره أن الخطاب الموجه إلى أي طرف منهما يركز دائماً على حقوق الطرف الآخر عليه، وهذه هي نظرة الإسلام وخطابه الراقي حين يعتمد على الإيمان وفعله في النفوس، قبل أن يعتمد على باب الحقوق والواجبات القانونية الجافة.
فالزوج مخاطب بقوله ص: "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي"، وقوله ص: "استوصوا بالنساء خيراً"، والزوجة مخاطبة بقوله ص: "أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة"، وقوله ص: "لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها".
وهذه الفقرة من خطبة الوداع من أشد ما تحتاجه المجتمعات المسلمة الآن، إذ إن من المؤامرات التي تتعرض لها الأسرة المسلمة في الوقت الحاضر طرح النموذج الغربي للعلاقة بين الزوجين، تلك العلاقة القائمة على الاستقلالية التامة، والحرية المطلقة لكل منهما، حتى يتسنى القضاء على الأسرة المسلمة، التي احتفظت بشخصيتها وأخلاقياتها الإسلامية على مدار قرون طويلة.
رابعاً: إقامة المجتمع القوي المتماسك:
وفي الخطبة إشارات متعددة إليه، يمكن جمعها في خطين عريضين:
الأول: علاقة أفراد المجتمع بعضهم ببعض.
والثاني: علاقة الحاكم بالمحكوم.
ففي الخط الأول يرى المتأمل في الخطبة أن هذا المجتمع القوي ينبني على العلاقة الحميمة القوية بين أفراده، وتقوم هذه العلاقة على:
1- الأخوة: في قوله ص: "واعلموا أن كل مسلم أخ للمسلم وأن المسلمين إخوة".(5)
2- المساواة: في قوله: "إن ربكم واحد: كلكم لآدم وآدم من تراب".
3- الوحدة والترابط: ونبذ التفرق والاختلاف: في قوله: "فلا ترجعوا بعدي كفاراً" وفي رواية "ضلالاً" يضرب بعضكم رقاب بعض"(6).
4- حرمة الدماء والأموال: في قوله: "إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا".
إن على المسؤولين في البلاد الإسلامية أن يهتموا بهذه الأركان الأربعة وبتوطيدها وتوكيدها.
إن إهمال هذه الجوانب، وإقامة الوطنيات والقوميات والنعرات الطائفية لكل مجتمع بديلاً عنها، يُراد منه في نهاية المطاف ما نلمس مقدماته الآن من تفكك وتشرذم... إلخ، بل تعدى الأمر هذا المنحدر الخطير، إلى استخدام المسلمين في ضرب إخوانهم.
أما الخط الثاني، وهو بيان العلاقة بين الحاكم والمحكوم، فقد أقامته الخطبة على دعامتين:
الأولى: طاعة أولي الأمر بالمعروف:
وذلك قوله ص: "يا أيها الناس، اسمعوا وأطيعوا، وإن أمِّر عليكم عبد حبشي مجدع ما أقام فيكم كتاب الله"(7)، فشرط طاعته إقامة كتاب الله، إشارة إلى إعلاء المرجعية الإسلامية، والحكم بكتاب الله وسنة رسوله، فإن فعل ذلك وجبت طاعته مهما كان اسمه وصفته، أما إن حاد عن ذلك فلا سمع له ولا طاعة، بل تجب مقاومته بالوسائل التي شرعها الإسلام... من النصح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر... إلخ.
الثانية: تقديم القدوة والنموذج من قبل الحاكم لرعيته:
حتى تكمل طاعتهم له، وقد ضرب الرسول القائد المثل في خطبته بحكمين يتصلان ببعض أقاربه، فقد وضع في ربا عمه العباس ودم أحد بني عبدالمطلب، وذلك قوله: "وربا الجاهلية موضوع، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبدالمطلب" وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضع من ربانا ربا عباس بن عبدالمطلب فإنه موضوع كله"(.
وقد قيل لعمر تعليقاً على إحضار جنوده كنوز كسرى وقيصر بين يديه، دون طمع فيها: "عففت فعفوا، ولو رتعت لرتعوا".
إن هذه الأسس الأربعة: تحديد المرجعية، وبناء الفرد، وتكوين الأسرة، وإقامة المجتمع القوي، بتفاصيلها وجزئياتها التي تؤخذ من الكتاب والسنة هي السبيل لأي نهضة، أو إصلاح لأحوال المجتمعات التي تدين بالإسلام، للوصول إلى المجتمع المسلم الواحد، الذي يقوم بأداء مهمته المتمثلة في قيادة البشرية الحائرة، إلى ربها، والأخذ بيدها إلى حياة سعيدة تحقيقاً لأستاذية العالم والشهادة على الناس(9)، (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس) (البقرة:143).
ونستطيع من خلال تحليل خطبة الوداع أن نتبين أسساً أربعة لأي دعوة إصلاح إسلامية حوتها كلمات النبي الجامعة في خطبته هذه وهي:
1- تحديد المرجعية العليا للمجتمع المسلم.
2- صياغة الفرد النموذج.
3- بناء الأسرة الصالحة.
4- إقامة المجتمع القوي المتماسك.
أولاً: تحديد المرجعية العليا للمجتمع المسلم:
وذلك قوله ص: "قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً، أمراً بيناً: كتاب الله وسنة نبيه"(2).
إن أي مشروع حضاري، أو دعوة إصلاحية، لابد أن تنطلق أولاً من تحديد الأيديولوجية التي ترتكن إليها، والمرجعية الإسلامية، وإعلاء الكتاب والسنة فوق كل المناهج والأيديولوجيات، فالمرجعية الإسلامية هي أيديولوجية المجتمع المسلم.
إن تحديده هذه المرجعية بالنسبة للمجتمع الذي يدين بالإسلام في منتهى الأهمية لا سيما في أيامنا هذه، حيث تتصارع الأيديولوجيات المختلفة والمذاهب المتباينة، وتحاول كل واحدة منها كسب مزيد من الأرض والبشر حتى صار العالم كله معتركاً لهذا الصراع.
وإذا كان المنطلق الأول لأي مشروع حضاري أو دعوة إصلاح هو تحديد المرجعية كما سبق فإن مرجعية الكتاب والسنة للمجتمع المسلم من مقتضيات الإيمان ومستلزمات الخضوع لرب العالمين، التي لا خيار لمسلم فيها.
وقد بيَّنت آيات القرآن الكريم ذلك في مواضع شتى، كما أوضحت دون ريب أن من يأبى هذه المرجعية ويتنكب طريقها دائر بين عدوين: إما كفر، قال تعالى: (وما يجحد بآياتنا إلا الكافرون) (العنكبوت 47)، وقال: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون 44 ) (المائدة)، وإما نفاق، قال تعالى ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين 47 وإذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم إذا فريق منهم معرضون 48 وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين 49 أفي قلوبهم مرض أم \رتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أولئك هم الظالمون 50) (النور).
والمتأمل في هذه الصياغة البديعة لهذه الفقرة من خطبة الوداع: "إن اعتصمتم به فلن تضلوا..."، يجد تحقيق مدلولها، حيث صار من البين الواضح، مدى الضياع التي تعانيه المجتمعات المسلمة حين تركت الاعتصام بالكتاب والسنة كمرجعية عليا، ودستور حاكم، وقانون ملزم، واستبدلت بهما غيرهما، أو فرض عليها غيرهما بتعبير أدق.
ثانياً: صياغة الفرد النموذج:
وهذا الفرد النموذج يمثل الأساس، واللبنة الأولى في أي نهضة، أو دعوة للإصلاح، وتمثَّل هذا في فقرتين من خطبة الوداع، وهما قوله ص: "أيها الناس إن ربكم واحد وإن أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي فضل على عجمي إلا بالتقوى(3)، وقوله: "فإن الشيطان قد يئس من أن يعبد بأرضكم هذه أبداً، ولكنه إن يطع فيما سوى ذلك فقد رضي به مما تحقرون من أعمالكم فاحذروه على دينكم"(4).
إن صياغة الإسلام لمن آمن به تعتمد على تربيته على تقوى الله، تقوى تجعل داخل نفسه رقيباً ذاتياً على أفعاله، مرشداً إلى الخير ناهياً عن الشر، بحيث لا يحتاج في كثير من الأحيان إلى الوازع الخارجي، والقوانين المتتالية، لضبط سلوكه وتوجيهه.
وسيرة الرسول ص منذ البدايات الأولى لدعوته تبين بجلاء مدى اهتمامه ببناء هذا الفرد النموذج وتربيته على هذا الأساس: تقوى الله، مما يقطع بأن هذا البناء وتلك التربية هما اللبنة الأولى في أي نهضة أو دعوة إصلاح.
إن المجتمعات المسلمة في حاجة ماسة إلى بناء الفرد على أساس الإسلام ومبادئه وأخلاقياته.
إن مخاطبة الغرائز الدنيا للفرد المسلم، وإسكار الناس باللهاث وراء الشهوات حيناً، ووراء لقمة العيش وضروراته حيناً آخر، لتغييب وعيهم، إن هذا كله أبعد ما يكون عن أي بناء سليم لمجتمع قوى، فضلاً عن أن يكون إسلامياً يتصدى لما يحاك له من مؤامرات.
ثالثاً: بناء الأسرة الصالحة:
وتنبع أهمية بناء الأسرة المسلمة من كونها اللبنة التالية لبناء المجتمع المسلم، بعد تحديد مرجعيته، وصياغة الفرد على التقوى، وذلك قوله ص: "أيها الناس، فإن لكم على نسائكم حقاً، ولهن عليكم حقاً، لكم عليهن ألا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه، وعليهن ألا يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع، وتضربوهن ضرباً غير مبرح، فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف، واستوصوا بالنساء خيراً، فإنهن عندكم عوان "أي أسيرات" لا يملكن لأنفسهن شيئاً، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمات الله".
إن بناء هذه الأسرة المسلمة يقوم على تحديد الحقوق والواجبات لكل من الزوجين، حتى يتفرغ كل منهما للمهمة الجسيمة الموكلة إليه في بناء صرح الإسلام في الأرض.
وكل حق في الإسلام يقابله واجب، غير أن الناظر في وصايا الإسلام للزوجين على وجه الخصوص، في غير خطبة الوداع، يلفت نظره أن الخطاب الموجه إلى أي طرف منهما يركز دائماً على حقوق الطرف الآخر عليه، وهذه هي نظرة الإسلام وخطابه الراقي حين يعتمد على الإيمان وفعله في النفوس، قبل أن يعتمد على باب الحقوق والواجبات القانونية الجافة.
فالزوج مخاطب بقوله ص: "خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي"، وقوله ص: "استوصوا بالنساء خيراً"، والزوجة مخاطبة بقوله ص: "أيما امرأة ماتت وزوجها عنها راض دخلت الجنة"، وقوله ص: "لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها".
وهذه الفقرة من خطبة الوداع من أشد ما تحتاجه المجتمعات المسلمة الآن، إذ إن من المؤامرات التي تتعرض لها الأسرة المسلمة في الوقت الحاضر طرح النموذج الغربي للعلاقة بين الزوجين، تلك العلاقة القائمة على الاستقلالية التامة، والحرية المطلقة لكل منهما، حتى يتسنى القضاء على الأسرة المسلمة، التي احتفظت بشخصيتها وأخلاقياتها الإسلامية على مدار قرون طويلة.
رابعاً: إقامة المجتمع القوي المتماسك:
وفي الخطبة إشارات متعددة إليه، يمكن جمعها في خطين عريضين:
الأول: علاقة أفراد المجتمع بعضهم ببعض.
والثاني: علاقة الحاكم بالمحكوم.
ففي الخط الأول يرى المتأمل في الخطبة أن هذا المجتمع القوي ينبني على العلاقة الحميمة القوية بين أفراده، وتقوم هذه العلاقة على:
1- الأخوة: في قوله ص: "واعلموا أن كل مسلم أخ للمسلم وأن المسلمين إخوة".(5)
2- المساواة: في قوله: "إن ربكم واحد: كلكم لآدم وآدم من تراب".
3- الوحدة والترابط: ونبذ التفرق والاختلاف: في قوله: "فلا ترجعوا بعدي كفاراً" وفي رواية "ضلالاً" يضرب بعضكم رقاب بعض"(6).
4- حرمة الدماء والأموال: في قوله: "إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا".
إن على المسؤولين في البلاد الإسلامية أن يهتموا بهذه الأركان الأربعة وبتوطيدها وتوكيدها.
إن إهمال هذه الجوانب، وإقامة الوطنيات والقوميات والنعرات الطائفية لكل مجتمع بديلاً عنها، يُراد منه في نهاية المطاف ما نلمس مقدماته الآن من تفكك وتشرذم... إلخ، بل تعدى الأمر هذا المنحدر الخطير، إلى استخدام المسلمين في ضرب إخوانهم.
أما الخط الثاني، وهو بيان العلاقة بين الحاكم والمحكوم، فقد أقامته الخطبة على دعامتين:
الأولى: طاعة أولي الأمر بالمعروف:
وذلك قوله ص: "يا أيها الناس، اسمعوا وأطيعوا، وإن أمِّر عليكم عبد حبشي مجدع ما أقام فيكم كتاب الله"(7)، فشرط طاعته إقامة كتاب الله، إشارة إلى إعلاء المرجعية الإسلامية، والحكم بكتاب الله وسنة رسوله، فإن فعل ذلك وجبت طاعته مهما كان اسمه وصفته، أما إن حاد عن ذلك فلا سمع له ولا طاعة، بل تجب مقاومته بالوسائل التي شرعها الإسلام... من النصح، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر... إلخ.
الثانية: تقديم القدوة والنموذج من قبل الحاكم لرعيته:
حتى تكمل طاعتهم له، وقد ضرب الرسول القائد المثل في خطبته بحكمين يتصلان ببعض أقاربه، فقد وضع في ربا عمه العباس ودم أحد بني عبدالمطلب، وذلك قوله: "وربا الجاهلية موضوع، وإن أول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبدالمطلب" وربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضع من ربانا ربا عباس بن عبدالمطلب فإنه موضوع كله"(.
وقد قيل لعمر تعليقاً على إحضار جنوده كنوز كسرى وقيصر بين يديه، دون طمع فيها: "عففت فعفوا، ولو رتعت لرتعوا".
إن هذه الأسس الأربعة: تحديد المرجعية، وبناء الفرد، وتكوين الأسرة، وإقامة المجتمع القوي، بتفاصيلها وجزئياتها التي تؤخذ من الكتاب والسنة هي السبيل لأي نهضة، أو إصلاح لأحوال المجتمعات التي تدين بالإسلام، للوصول إلى المجتمع المسلم الواحد، الذي يقوم بأداء مهمته المتمثلة في قيادة البشرية الحائرة، إلى ربها، والأخذ بيدها إلى حياة سعيدة تحقيقاً لأستاذية العالم والشهادة على الناس(9)، (وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس) (البقرة:143).